الحرة دوت كوم  *** الحرة دوت كوم *** الحرة دوت كوم *** الحرة دوت كوم ***


دراسة تأريخية (مرتجلة) حول أصل العرب

 

علي آل شفاف

 

إن المتتبع للإشارات الكثير الواردة في النصوص التاريخية, يلاحظ أن هناك الكثير من المشهورات التأريخية التي تقرب من المسلمات, هي في الواقع لا تستند إلى أي دليل ملموس وإنما في أغلبها تستند إلى شهرتها وانتشارها بين المؤرخين. وخصوصا القدماء منهم, الذين غالبا ما ينقلون المرويات بدون تحقيق أو تدقيق لمحتواها. وخصوصا التأريخي, إذا ما استثنينا أحاديث السنة المطهرة, وما على شاكلتها. وهذا ما تنبه له المتأخرون منهم كابن خلدون, الذي نقض الكثير من المرويات التأريخية, إنطلاقا من المناقشة والتحليل والمقارنة لمحتواها.

 

وهنا أضع أمام الدارسين والمؤرخين هذه المحاولة المرتجلة, آملا منهم متابعتها وتحقيقها  وصولا إلى الحقيقة, بالدرجة التي تسمح بها المدونات التأريخية الروائية, أوالتحليلات  المستندة إلى اللقى الآثارية والدراسات المعاصرة.  

 

هناك معطيات تأريخية كثيرة تؤكد أن جبل "الجودي" الذي رست عليه سفينة النبي نوح (ع), هو بالقرب من "الموصل" الحالية. وجميع المحاولات في إثبات أنها على جبل "أرارات" في جنوب شرق تركيا, باءت بالفشل.

وهذا ما تؤكده الروايات التأريخية الكثيرة كرواية "الطبري". حيث يذكر في تاريخه في المجلد الأول ص 116 بعد ذكر سفينة نوح عليه السلام:

". . . حتى انتهت إلى الجودي وهو جبل بالحضيض من أرض الموصل . . . "

وهذا ما يتفق عليه أغلب المؤرخين المسلمين, وقد تخالفهم بعض الروايات في "التوراة", والتي يصر عليها المؤرخون الغربيون, وعلماء الآثار دون دليل ـ لحد الآن على الأقل.

 

وقال الطبري أيضا في ص 119 من نفس المجلد:

"وكان بعضهم يقر بالطوفان ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه".

 

وهذا يقوي روايته السابقة بشأن رسو السفينة في الموصل, بحكم القرب الجغرافي بين المدينتين. ويقويه أيضا بعض الروايات التي تقول بأن الطوفان قد حدث في منطقة محددة من الأرض وهي (العراق) الحالي, ولم تشهده الأقوام الأخرى المعاصرة لزمان حدوثه كالفرس والهنود وغيرهم.

فإذا ما ثبتنا مبدئيا أن نوحا (ع) وقومه هم (عراقيون) بالتعبير المعاصر, نعود الآن إلى العرب وأصلهم ومنبعهم وكيف يرتبطون بالنبي نوح (ع) وابنه سام:

 

فمن المعروف أن العرب يقسمون قديما إلى: عرب عاربة, ومستعربة, وبائدة. أما العاربة فهم اليمانية القحطانية, وأما المستعربة فهم العدنانية, وأما البائدة فالمعروف منهم طسم وجديس وأميم وعاد وثمود والعماليق وحضرموت وغيرهم. وهذا هو المشهور. فيما يعتبر ابن خلدون وآخرون من قبله أن العرب العاربة هم هذه القبائل الأخيرة, أما المستعربة فهي حمير وكهلان والتبابعة وغيرهم. أما العدنانية أبناء إسماعيل فقد جمعهم تحت عنوان العرب التابعة للعرب. حيث يذكر في المجلد الثاني من تاريخه ص 18:

"واعلم أنّ جيل العرب بعد الطوفان وعصر نوح عليه السلام كان في عادٍ الأولى وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت، ومن ينتمي إليهم من العرب العاربة من أبناء سام بن نوح. . . وصار هذا الجيل في آخرين ممن قرب من نسبهم من حِمْيَر وكهلان وأعقابهم من التبابعة ومن إليهم من العرب المستعربة من أبناء عابر بن شالخ بن أزفخشذ بن سام. ثم لما تطاولت تلك العصور . . . واختص الله بالنبوة . . . إبراهيم بن تارخ وهو آزر . . .  ثم كان من هجرته إلى الحجاز ما هو مذكور، وتخلف ابنه إسماعيل مع أمه هاجر بالحجر . . . ونشأ إسماعيل بينهم ،وربّي في أحيائهم، وتعلم لغتهم العربية بعد أنّ كان أبوه أعجميا. . . ثم عظم نسله وكثر، وصار بالجيل آخر من ربيعة ومضر ومن إليهم من إياد وعك وشعوب نزار وعدنان وسائر ولد إسماعيل، وهم العرب التابعة للعرب".

 

فيما قال ابن الجزري صاحب الكامل في التاريخ في المجلد الأول ص 76:

"وولد عابر بن آرم : ثمود، وجديس ، وكانوا عرباً يتكلمون بهذا اللسان المضري ، وكانت العرب تقول لهذه الامم ولجرهم : العرب العاربة ، ويقولون لبني إسماعيل : العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الامم حين سكنوا بين أظهرهم".

 

وقال صاحب النهاية في المجلد الأول ص 60:

 

"ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام العرب العاربة وهم قبائل كثيرة منهم عاد وثمود وجرهم وطسم وجديس وأميم ومدين وعملاق وعبيل وجاسم وقحطان وبنو يقطن وغيرهم

"وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم".  

 

نستنتج مما ورد أعلاه: أن العرب العاربة والبائدة (المستعربة بتعبير ابن خلدون) هم مجموعة واحدة. باد قسم منها فانطمس ذكره بعد ذوبان بعضه في المجموعة الجديدة "الإسماعيلية", واندثار البعض الآخر لأسباب مجهولة لنا. فسمي هذا القسم بالعرب البائدة. فيما استمر وجود القسم الآخر فحافظ على اسمه وهو العرب العاربة كما هو المشهور (وهو الذي سأستخدمه فيما بعد), أو "المستعربة" بتعبير ابن خلدون. وعاش جنبا إلى جنب مع العرب "الإسماعيلية", أو العرب المستعربة كما هو المشهور (وهو الذي سأستخدمه فيما بعد), أو "العرب التابعة للعرب" كما سماهم ابن خلدون.

 

والآن لنبحث أصل كل من الأقسام الثلاثة من العرب: 

ولنبدأ بالعرب "الإسماعيلية" أو المستعربة. بسبب الأتفاق على أصلهم, وكونهم أبناء إسماعيل  ابن إبراهيم (ع). ولا خلاف في أن النبي إبراهيم قد ولد في "أور", بقرب مدينة الناصرية الحالية. وأنه عاش حتى بعث نبيا في جنوب (العراق) الحالي فيما يعرف بدويلات المدن السومرية, في نهاية العصر الثالث منها, وبدايات الدولة البابلية الأولى, أي في القرن العشرين أو التاسع عشر قبل الميلاد. ويمكن مراجعة كتاب الدكتور "أحمد سوسة" المسمى "العرب واليهود في التاريخ" ففيه تفاصيل دقيقة عن هذه المرحلة, وحياة النبي إبراهيم (ع) فيها بالتفصيل.

 

أما صاحب النهاية في المجلد الثاني ص 144 فيقول:

"وعن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي كان من شأن إبراهيم عليه السلام أنه طلع كوكب على نمرود فذهب بضوء الشمس والقمر ففزع من ذلك فزعا شديدا فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة فسألهم عنه فقالوا يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك وكان مسكنه ببابل الكوفة فخرج من قريته إلى قرية أخرى فأخرج الرجال وترك النساء وأمر ألا يولد مولود ذكر إلا ذبحه فذبح أولادهم ثم إنه بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها إلا آزر أبا إبراهيم فدعاه فأرسله فقال له أنظر لا تواقع أهلك فقال له آزر أنا أضن بديني من ذلك فلما دخل القرية نظر إلى أهله فلم يملك نفسه أن وقع عليها فقربها إلى قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها أور فجعلها في سرب فكان يتعاهدها بالطعام والشراب ومايصلحها".

 

والنص أعلاه مثال فقط, وإلا فأغلب المؤرخين يتفقون على هذا الأمر.

مما يعني بما لا يقبل الشك, أن العرب المستعربة, وهم المضرية النزارية العدنانية, وعلى رأسهم سيدهم وسيد البشر وفخر الكائنات الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (ص), هم (عراقيون). قدم جدهم بأبيهم إلى الحجاز, وأسكنه مع الذين صاروا أخوالهم من العرب (العراقيين أيضا ـ كما سنرى فيما بعد), الذين هاجروا إلى الحجاز قبلهم بمئات السنين, وربما أكثر. ولا أظن أن هناك من يخالف في أصل هذا القسم من العرب.

 

أما في القسم الآخر, وهم العرب العاربة القحطانية اليمانية,

ففي المجلد الثاني من النهاية ص 80:

"قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى اسماعيل بن ابراهيم عليهما لسلام والتحية والاكرام والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل اسماعيل . . . وأما عرب اليمن وهم حمير فالمشهور أنهم من قحطان . . . وقيل أن قحطان من سلالة اسماعيل حكاه ابن اسحاق وغيره فقال بعضهم هو قحطان بن تيمن بن قيذر بن اسماعيل وقيل غير ذلك في نسبه إلى اسماعيل والله أعلم".

 

وهذا أحد الآراء في أصل العرب القحطانية وهو أنهم أبناء إسماعيل أيضا . . ومما يقويه ما ذكره بعد ما سبق مباشرة حيث قال:

"وقد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك فقال باب نسبة اليمن الى اسماعيل عليه السلام . . . حدثنا سلمة رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف فقال ارموا بني اسماعيل . . . انفرد به البخاري

وفي بعض الفاظه ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا . . .

قال البخاري وأسلم بن أفصي بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم كما سيأتي بيانه وكانت الأوس والخزرج منهم وقد قال لهم عليه الصلاة والسلام ارموا بني اسماعيل فدل على أنهم من سلالته وتأوله آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب لكنه تأويل بعيد".

 

فدل هذا ـ إن صحت الرواية ـ على أن العرب القحطانية اليمانية, هم أبناء إسماعيل (ع), أي أنهم (عراقيون) أيضا.

على أن هناك رأي آخر ـ ولعله أشهر من هذا ـ وهو أن العرب العاربة القحطانية, هم قوم نزحوا من (العراق) ـ أي من أور أو الوركاء أو بابل أو نينوى على التوالي الزمني ـ بعد طوفان نوح (ع) بفترة إلى اليمن. قبل أو مع أو بعد أخوتهم الذين يعرفون بالعرب البائدة, الذين نزحوا من (العراق) إلى باقي مناطق شبه جزيرة العرب, بما فيها الحجاز ومدين (قرب سيناء).  وهذا ما يذكره ابن خلدون في المجلد الثاني من تاريخه ص 21 , 22 حيث يقول ما يلي في باب "الطبقة الأولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإلمام بملكهم ودولهم علي الجملة" :

"هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح ،وأعظمم قدرة ،وأشدّهم قوة وآثاراً في الأرض، وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه . . .  فملوك جزيرة العرب . . . يقال: إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام، فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور حسبما نذكره، إلى أنّ غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان. وهؤلاء العرب العاربة شعوب كثيرة وهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وعبد ضخم وجرهم وحضرموت وحضورا والسلفات. . . وقد تسمى البائدة أيضاً بمعنى الهالكة لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم".

 

وهنا يجمع ابن خلدون العرب العاربة والبائدة تحت عنوان واحد, ويذكر القول بأنهم انتقلوا من "بابل".

على أن الرواية قد توحي بأن القحطانية قد تعربوا من قبل العرب البائدة (التي يسميها ابن خلدون العاربة). ولذلك سمى القحطانية بـ (المستعربة), وهذا الموضوع يحتاج إلى بحث مطول وليس هذا محله.

 

وهكذا فإن العرب القحطانية اليمانية هم (عراقيون) أيضا, وربما يتاح وقت آخر لطرح أدلة أكثر تفصيلا.

 

والآن لنأتي إلى أقدم العرب ـ على الأرجح ـ وهم العرب البائدة

فإذا جمعنا رواية ابن خلدون أعلاه, مع الرواية التالية للطبري, في ص 128 من الجزء الأول من تاريخه, حيث يذكر التالي:

" ويقال إن عمليق أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل فكان يقال لهم ولجرهم العرب العاربة وثمود وجديس ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح . . . "

 

وغيرهما الكثير, يتقوى لدينا أن العرب البائدة, وهي القبائل المذكورة أعلاه, والتي قد تسمى بالعرب العاربة أيضا. هم أقوام نزحوا من بابل أي من (العراق), وهم يتكلمون العربية, التي  ـ ربما ـ كانت لا تبتعد كثيرا عن باقي لغات الأقوام الأخرى التي سكنت (العراق) القديم.

 

بناءا على ما تقدم نستطيع أن نستنتج بأن العرب بجميع أقسامهم, هم قوم نزحوا من (العراق) القديم  إلى شبه جزيرة العرب. ومنها انتشروا في الأراضي التي يقطنوها حاليا, أما القسم الذي يسكن العراق حاليا, فهم سكنة العراق الأصليون مع بقايا الكلدان والأشوريين.

وهم أصل العرب ومنبعهم وأصفاهم عروبة.  

فـ(العراق) هو الأصل, وليس شبه الجزيرة التي سميت فيما بعد باسمها, نسبة إلى الأقوام العربية النازحة من (العراق) إليها.